التغير الاجتماعي والأماكن العامة لاجتماع الناس في مدينة دمشق

يلحظ المتتبع لتطور الأماكن العامة لاجتماع الناس في مدينة دمشق خلال الفترة (1900-1950) أن هذه الأماكن قد شهدت تغيرات واسعة على الرغم من استقطابها للناس على مدار سنوات الفترة كاملة. ويمكن أن نميز بين أربعة نماذج من الأماكن العامة في تلك الفترة. اتصف النموذج الأول باستمرارية وظيفته خلال إجمالي الفترة وحافظ من خلالها على ما يؤديه من دور في الحياة الاجتماعية وجذب الناس إليه، وخير مثال على هذا النموذج من الأمكنة العامة هو المسجد، الذي شكل طيلة الفترة موقع جذب أساسي يأتي إليه الناس لأداء فريضة الصلاة. غير أن هذا المكان أخذ يؤدي وظائف اجتماعية وثقافية عديدة جعلته أكثر جذباً للناس. أما النموذج الثاني فيلاحظ أنه على الرغم من تبدل وظائفه خلال إجمالي الفترة غير أنه حافظ على فعاليته بدرجة كبيرة، ونموذجنا في ذلك مستمد من المقهى الذي كان يؤدي دوراً حيوياً في حياة الناس، وفي كونه مجالاً من مجالات شغل أوقات الفراغ. أما النموذج الثالث، وتعد حمامات دمشق خير مثال على هذا النوع من الأمكنة، فقد تبدلت وظائفه كثيراً في نهاية الفترة بالموازنة مع ما هي عليه في بداياتها، وقد ترتب على ذلك أن ظهر التغير في درجة استقطابه للناس وجذبه لهم.. ويتصف النموذج الرابع بحداثته، وكونه نتاجاً لمظاهر التحديث التي أخذت بالانتشار في الحياة الاجتماعية منذ العقد الثالث من القرن العشرين، والمثال الذي نعتمده في دراسة هذا النموذج مأخوذ من دور السينما التي أخذت بالانتشار منذ ذلك الحين واستمرت حتى نهاية الفترة المدروسة.
وترمي الدراسة إلى إبراز الدور الذي كانت تؤديه الأماكن العامة لاجتماع الناس في حياتهم الاجتماعية من خلال ما تؤديه من وظائف اجتماعية واقتصادية لم تجد قنوات لتحققها غير تلك الأماكن، لذلك لا تولي الدراسة اهتماماً كبيراً بالسجل التاريخي لهذه الأماكن، ولا بطابعها الهندسي أو المعماري، إنما تركز اهتمامها على الوظائف الاجتماعية المنوطة بها، وعلى التطورات التي شهدتها في سياق مظاهر التغير الاجتماعي الذي شهدته المدينة خلال إجمالي الفترة.
ولما كانت المراجع المعنية بموضوع الدراسة خلال الفترة المدروسة قليلة إلى حد ما، وتحتاج لوقت أرحب، فقد اعتمدت الدراسة في جمع بياناتها على زيارات ميدانية لمجموعة من الأشخاص من كبار السن الذين عاشوا تلك الفترة، وتفاعلوا مع أحداثها، وشهدوا تغيراتها. فتم الاستفسار من خلالهم على أنماط الحياة السائدة آنذاك، وأوجه شغل أوقات الفراغ، والعوامل التي كانت تدفعهم إلى اختيار هذا المكان العام أو ذاك. وقد بلغ عدد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أربعة عشر شخصاً، منهم (7) أشخاص راوحت أعمارهم بين (70-79)، و(5) أشخاص بين (80-89) وأخيراً شخصان (90) سنة وأكثر. كما توزع هؤلاء إلى تسعة ذكور وخمس نساء. وعلى الرغم من أنه ليس من اليسير أن تغطي الفئات العمرية المذكورة إجمالي الفترة، إلا أنها يمكن أن تقدم صورة أولية عما كان يحدث في الماضي، فضلاً على أن الأفكار المعتمدة من قبلهم جاءت لتعزز جملة من القضايا النظرية المعروفة عن تلك الفترة، ولم تكن بمثابة المصدر الرئيسي لها. بالإضافة إلى أن التغيرات في الثقافة وأبعاد البناء الاجتماعي بطيئة على الأغلب ويمكن أن تحافظ على ذاتها وجوهرها عبر عقد واحد أو عقدين من الزمن مع احتمال وجود تغيرات عديدة في هذا المجال. فما كان قائماً في سنة 1920 مثلا لم يكن مختلفاً كثيراً عما كان في سنة 1910، وما هو سائد من عادات وتقاليد وأعراف في سنة 1910، لم يكن بعيداً عما كان سائداً في سنة 1900. لذلك ليس من المتوقع أن تكون الصورة التي تم التعرف عليها من خلال كبار السن في الوقت الراهن، عن الأمكنة العامة في مدينة دمشق خلال النصف الأول من القرن العشرين بعيدة عن الواقع، وإن لم تكن مطابقة له تماماً، فهي مطابقة له بنسبة عالية، خاصة وأن التحليل الاجتماعي يهدف إلى بلوغ الصورة الأكثر اكتمالاً، والأكثر وضوحاً.
وعلى الرغم من ذلك تتجه الدراسة إلى تعزيز الصورة التي قدمها لنا كبار السن في الوقت الراهن بالدراسات والمقالات التي نشرت في تلك الفترة، وبالمقالات والكتب التي تم نشرها بعد ذلك الحين فيما يخص ذات الموضوعات، واعتمدنا في عملية التوثيق الطرق المتعارف عليها في التوثيق العلمي.
وتتوزع الدراسة في أربعة محاور أساسية، يشرح الأول منها الوظائف الأساسية والاجتماعية للمسجد بوصفه مثالاً عن النموذج الأول. ويبحث الثاني في الدور الاجتماعي الذي كانت تؤديه المقهى في حياة السكان، أما المحور الثالث فيبحث بالوظائف الاجتماعية لحمامات مدينة دمشق. ويتناول المحور الرابع الوظائف الاجتماعية التي كانت تؤديها دور السينما بوصفها نموذجاً للأماكن العامة التي جذبت الناس إليها. كما يعرض المحور الأخير للخاتمة والخلاصة العامة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق