التنمية والتبعية

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية التسعينات من هذا القرن ازدادت عمليات التنمية وضوحاً في معظم بلدان العالم الثالث، حيث نمت الاستثمارات الاقتصادية في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة إلى درجة أصبحت فيها خطط التنمية الشغل الشاغل للسياسي والاقتصادي والاجتماعي على حد سواء، وبرزت في هذا السياق نظريات للسياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين أراد أصحابها منها التنظير لعملية التنمية، وتوضيح أسسها وشروطها على مختلف الأصعدة. وفي ضوء مجموعة واسعة من النظريات التي اعتمدتها الدول أخذت البلدان النامية تنظم علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الدول الأخرى، بما في ذلك الدول المتقدمة صناعياً وتجارياً، فنشطت الأسواق العالمية للتجارة وتقدمت مواقع بعض الدول فيها، وتراجعت مواقع بعضها الآخر حتى أصبحت قضية التنمية في بلدان العالم الثالث هي قضية السياسيين والاقتصاديين في الدول المتقدمة نفسها لما لها من آثار وامتدادات تمس المنظومة الاقتصادية العالمية، ولما لهذه القضية من دور أخذ يتزايد في تغيير معالم هذه المنظومة وتوازن القوى الفاعلة فيها.
واستفادت دول نامية عديدة من الأوضاع الدولية التي كانت سائدة طيلة الفترة السابقة. ففي ظل الأوضاع القائمة على الصراع والتنافس والحرب الباردة كانت الحكومات في الدول النامية تجد قنوات عديدة للتفاعل مع العالم، وبين يديها أوراق عديدة يمكن استثمارها في عمليات التنمية، تمكنها من ممارسة الخيارات في الفعل السياسي والاقتصادي. فكانت لها إمكانية اختيار القرارات التي تعتقد أنها تخدم مصلحة بلدانها، وكان في مقدورها اختيار هذا النموذج التنموي أو ذاك، وسرعان ما كانت تجد  في دول صناعية عديدة من يقف معها، ويوفر لها الإمكانات اللازمة سعياً وراء توسيع رقعة تحالفاتها السياسية والاقتصادية مع دول العالم لتصبح أكثر قوة، وأوسع تأثيراً في المحيط العالمي. وقد وجدت بلدان نامية عديدة في هذه الشروط ما يساعدها على تحقيق بعض أهدافها التنموية، فجلبت إليها التقانة الحديثة والمتطورة، ووظفتها في النشاطات الإنتاجية وغير الإنتاجية، وقد ترتب على ذلك أن ازدادت مستويات الأداء الاقتصادي وبرزت مظاهر التحسن في مستويات المعيشة بين السكان، وانتشرت الكهرباء في القرى والأرياف المختلفة، بعد أن كانت وقفاً على المدن والمراكز الحضرية، وامتدت شبكات مياه الشرب إلى مناطق عديدة كانت محرومة من مياه الاستخدامات الأخرى.
     وإلى جانب ذلك كانت مجموعة من الدول النامية قادرة على اختيار التقانات التي تناسبها في كثير من الأحيان، وتعتقد أنها مفيدة لها في عمليات التنمية الاجتماعية الشاملة، في الوقت الذي كان فيه قادرة أيضاً على منع التقانات التي تعتقد أنها لاتخدم أغراض التنمية بالشكل المطلوب في بلدانها، أو أنها تؤدي وظائف سلبية بالنسبة إلى الاقتصاد المحلي، أو الصناعات المحلية، وذلك بمنع استيرادها كلياً تارة، أو فرض ضرائب جمركية عالية عليها تارة أخرى، ذلك بهدف تحقيق قدر من التوازن بين ما تستورده من تقانات وبين ما تصدره من سلع ومنتجات. وقد يكون المنع أيضاً لحماية الصناعات الوطنية التي يمكن أن تتضرر من جراء منافسة الصناعات الأجنبية لها. 
وعلى الرغم من ذلك تدل المؤشرات الإحصائية لأوضاع الاقتصاد والتنمية في معظم بلدان العالم الثالث أن عمليات التنمية الواسعة لم تسهم في تخفيف درجة التبعية، بل ظهر الأمر على العكس تماماً، حيث ازدادت تبعية الدول النامية للدول الصناعية في مختلف المجالات، بما في ذلك مجالات الغذاء، والكساء، فضلاً على مجالات الصناعة والتقانة وغيرها.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق