العمل التطوعي والحد من انتشار الأمية

تعد مظاهر العمل التطوعي واحدة من أبرز الأعمال وأنماط الفعل الإنساني الدالة على مستوى التطور الاجتماعي والحضاري للأمة، فمن خلالها تتحقق ابرز مظاهر التواصل الإنساني، الرامي إلى توثيق الصلات الاجتماعية، وتعزيز التعاون بين الناس لغايات مشتركة تتحقق من خلالها المصالح المشتركة، ويتمكن الأفراد من تلبية حاجاتهم دون أن يمس أحدهم غيره بعدوان، ودون قيام أحدهم باغتصاب حقوق غيره من الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها.
فمظاهر السلوك الإنساني وأنماط الفعل التي يمارسها الإنسان ما هي إلا التجسيد الحقيقي لحياته ولوجوده المادي الطبيعي، بالإضافة إلى كونها مبنية على شكل إيمانه بالخالق عز وجل. فمن خلالها يحقق المرء تواصله مع الآخر، ويبادله التأثير، فيبحث عن حاجاته، ورغباته، ولوازم عيشه، ويوفر لغيره حاجاتهم ورغباتهم بما يتاح له من قدرة وإمكانات.
وإذا كانت المجتمعات الإنسانية قد حققت خلال تاريخها الطويل تطورات كبيرة وشهدت تغيرات نوعية واسعة في حياة أبنائها فإن مظاهر التطور، وسعة التغيرات جاءت مرتبطة بالسلوك الإنساني وبأنماط التفاعل بين الأفراد، وبالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تحكم هذا السلوك، وتوضح الدلالات التي ينطوي عليها.
ولهذا أصبحت قيمة السلوك في أية ثقافة إنسانية مرهونة بالدلالات التي تنطوي عليها، في إطار هذه الثقافة، ولا يوجد أي نمط سلوكي يمكن أن ينطوي على قيمة اجتماعية في ذاته، حتى تلك الأنماط التي يهدف فاعلوها إلى تلبية حاجات خاصة بهم، كحاجات المأكل والملبس، وتلبية الشهوات.. فهذه الأفعال لا يستطيع المرء ممارستها إلا في إطار اجتماعي يعطي لكل ممارسة دلالاتها، ومعانيها الاجتماعية، فتصبح مقبولة أو مرفوضة تبعاً لدرجة توافقها مع القيم العامة التي تشرعها المنظومة الثقافية والحضارية لكل أمة.
ولأن الفعل التطوعي يحقق أسمى مظاهر التفاعل الإنساني فهو من أهم عوامل التغيير الاجتماعي الذي يمكن أن تسهم في عملية التطوير الثقافي والحضاري للأمة، بدلالة أن المؤسسات الكبيرة والحكومات والدول تعجز في كثير من الأحيان عن تلبية حاجات المواطنين، بسبب غياب الموازنة بين إمكاناتها المادية المتاحة أمامها، والإمكانات المطلوبة منها لتحقيق الحاجات وتلبيتها، وكثيراً ما تجد في الدعوة إلى العمل التطوعي خير مساعد ونصير يمكن أن يمد لها العون، ويساعدها في حل مشكلاتها المادية والتنظيمية والمالية.
وتتجاوز أهمية العمل التطوعي مستوى الدول والحكومات المحلية لتصل مستوى المنظومة العالمية، فالأمم المتحدة تدعو بين حين وآخر كل المؤسسات الأهلية التي اعتمدت العمل التطوعي أساساً لنشاطاتها لترفع مستوى هذه النشاطات، وتعمل على تقديم الدعم المادي والمعنوي والفكري الذي يمكن أن يسهم في تنشيط هذه المؤسسات، ورفع مستوى أدائها المهني والتخصصي.
ويسهم العمل التطوعي بإنجاز أعمال وأفعال أساسية وضرورية بالنسبة إلى كل مجتمع، غير أنها عصية على التحقق بالنسبة إلى المؤسسات التجارية التي تبغي الربح في كل خطوة تخطوها بسبب طبيعتها، وبسبب ضعف المردود المادي المتوقع منها، وتأتي حملات محو الأمية واحدة من هذه الأعمال التي لا تقدم عليها المؤسسات التجارية، في الوقت الذي لا تستطيع المؤسسات الرسمية أداءها لاعتبارات كثيرة، منها ارتفاع التكاليف، وتنوع خصائص الظاهرة.
وتكمن أهمية حملات محو الأمية بالنسبة إلى الأمن الاجتماعي في كون انتشار الأمية يعد خطراً يهدد الدول والمجتمعات لغياب قدرتها على التفاعل مع مستجدات العصر من جهة، ولكونها أكثر من غيرها عرضة للتحديات الثقافية والحضارية التي تهدد تراثها وبنيانها الاجتماعي، الأمر الذي يجعل حملات محو الأمية ضرورة من ضرورات التنمية، وضرورة من ضرورات التفاعل مع التطورات الهائلة التي يشهدها العالم المعاصر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق