البعد الاجتماعي في الخصوصيات الثقافية والحضارية للمدينة العربية

تتجلى الخصوصيات الثقافية والحضارية للمدينة العربية بمظاهر عديدة، منها ما يتصل بالنسيج العمراني للمدن، وأشكال استخدام أمكنتها المتعددة، من طرق ومباني وساحات عامة، ومرافق أساسية، ومنها ما يتصل بطبيعة الروابط الاجتماعية التي يقيمها الناس بين بعضهم، من علاقات جوار وقرابة وتساند وتعاضد أحياناً وصراع وتنافر أحياناً أخرى.
وعلى الرغم من ارتباط هذه المظاهر ببعضها ارتباطاً وثيقاً، غير سرعة التغير في كل منها تختلف عن الأخرى، ففي حين يخضع النسيج العمراني لتغيرات سريعة بتأثير عوامل اقتصادية واجتماعية عديدة، يعد التغير في البناء الاجتماعي للمدينة بطيئاً ومضطرباً مما يفقده قدراً كبيراً من خصوصياته الثقافية، وغالباً ما تمتد آثار ذلك إلى النسيج العمراني نفسه، فيبدو مضطرباً وسريع التغير ومتعدد الأشكال في كثير من الأحيان.
وفي الوقت الذي كانت فيه مظاهر النمو في النسيج العمراني ومنظومات التفاعل الاجتماعي مبنية على عوامل ذاتية في معظمها كانت تأتي متناغمة مع بعضها، وفيها قدر كبير من التوافق مما يكسبها هوية ثقافية وحضارية خاصة بها، ذلك أن النسيج العمراني يؤدي وظائفه الاجتماعية بالنسبة إلى السكان، وينمو من خلالها، كما أن منظومات التفاعل الاجتماعي تنمو في سياق الظروف الموضوعية المحيطة بها، والتي يعد النسيج العمراني للمدينة واحداً من عناصرها الأساسية.
غير أن الأمر يختلف في الظروف الراهنة، فبالنظر إلى أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم قاطبة باتت تؤثر بشكل فعال، بدرجات متباينة، ومن مصادر متنوعة، في كل من منظومة العلاقات الاجتماعية السائدة في المدن من جهة، وفي بنية النسيج العمراني للمدن من جهة أخرى، فقد ظهرت آثار ذلك في تراجع عملية التناغم التي كانت سائدة في نمو المدينة بين النسيج العمراني ومنظومات التفاعل الاجتماعي، الأمر الذي يفقد هذا النمو قدراً كبيراً من خصوصياته الثقافية والحضارية.
وغالباً ما يؤدي عدم التوافق بين الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمدينة من جهة، ونسيجها العمراني من جهة أخرى إلى ظهور مشكلات اجتماعية ونفسية متعددة تتجلى في ازدياد مظاهر الانحراف في أنماط السلوك ونمو الجريمة والإدمان على تعاطي الكحول والمخدرات وغيرها من الأفعال التي تهدد الأمن الاجتماعي وتقلق راحة السكان، ويعاقب عليها القانون.
كما تشكل الهجرات السكانية إلى المدن واحدة من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى النمو السريع للمدن دون أن تشكل العوامل التي تؤدي نضوج المدينة بالشكل الذي يجعلها قادرة على استيعاب النمو السكاني الواسع، مما يزيد من أعبائها، ويضاعف حجم الخدمات المطلوبة منها، وفي الوقت الذي تتراجع فيه إمكانية استثمار مواردها بالشكل الأفضل، يلاحظ أن نمو النسيج العمراني يمتص قدراً كبيراً من الموارد التي يمكن توظيفها بشكل آخر.
وفي ضوء هذا التصور تأخذ الدراسة تهدف الدراسة إلى تحليل العوامل التي تؤدي إلى انتشار مظاهر الخلل وعدم التوافق بين البعد الاجتماعي للمدينة العربية ونسيجها العمراني.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق