حول واقع التنشئة الاجتماعية في المجتمع العربي

تتجه التيارات المعاصرة في التنشئة الاجتماعية، وبخاصة الجهود المدعومة من قبل منظمات الأمم المتحدة (اليونسكو، واليونيسيف..) نحو التركيز على قضايا أساسية وهامة تتعلق بحقوق الأبناء كحقوق الطفل وتمكين المرأة وشمولية التعليم والصحة والخدمات.. وهي اتجاهات مبنية في أساسها على قيم إنسانية وأخلاقية عامة تتصف بالشمولية التي تنتفي فيها أية خصوصيات ثقافية وحضارية تتصل بهذا المجتمع أو ذاك، وفي هذا التوجه جوانب عظيمة الشأن لا بد من الإشارة إليها، ومخاطر لا بد من التنبه إليها. أما جوانبها الهامة فتكمن في كونها مبنية على قيم أخلاقية وإنسانية تجعل من حقوق الإنسان في الحياة والعمل أساساً لأي تخطيط استراتيجي وقومي، وهو ما تتفق بشأنه الحضارات الإنسانية المختلفة، وفي ذلك تكمن مصادر القوة في هذه التوجهات.
أما مواطن الخطر في فتعود إلى أن هذه التوجهات تأخذ بالتفاعل مع أفراد المجتمعات وكأنهم متماثلون في خصائصهم الثقافية والاجتماعية والحضارية، بصرف النظر عما يميز المجتمعات الإنسانية عن بعضها بعضاً، وبصرف النظر عن الخصوصيات التاريخية التي جعلت لكل مجتمع تنظيم اجتماعي متميز في أبعاده وأشكاله، وفي تصوراته لحقوق أبنائه وواجباتهم في سياق تفاعلاتهم الاجتماعية، فما هو حق للأبناء في سياق ثقافة اجتماعية ما أو في سياق تنظيم اجتماعي محدد بعد واجباً عليهم في سياق ثقافة أخرى، وفي سياق ظروف اجتماعية واقتصادية مختلفة، ولهذا فإن اعتماد قيم إنسانية مطلقة في الحكم على الأشياء بصرف النظر عن خصوصيات الواقع والعمل على تطويعه بما ينسجم مع تلك التصورات لا يخلو من مخاطر تظهر في منحيين: الأول تقويض دعائم نظم التنشئة التقليدية والحيلولة استمرارها لعدم تطابقها مع التصورات الجديدة، والثاني عدم قدرة الاتجاهات الحديثة على تنشئة الجيل وفق معايير التنشئة التي تتطلع إليها لعدم توافقها مع الخصوصيات الثقافية والحضارية للمجتمع، الأمر الذي يفسر انتشار مظاهر الاضطراب والخلل في مسارات التنشئة الاجتماعية، وما يترتب على ذلك من خلل في بنية الإنسان وضعف التكامل بين مكوناته النفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية.
ويلاحظ من خلال تحليل مجموعة استراتيجيات أخذت تعمل بها دول عربية عديدة في مجالات الطفولة، والطفولة المبكرة، والشباب، يلاحظ أن هذه الاستراتيجيات غالباً ما تركز على جوانب أساسية وهامة في حياة الشباب أو الأطفال، غير أنها تحمل في مضمونها قدراً كبيراً من التكرار، وتعيد تصنيف الأهداف التي تسعى إليها القطاعات المختلفة في إطار جديد، هو إطار الاستراتيجية الوطنية، فتركز على الجوانب الصحية والتعليمية والثقافية والمهنية وغيرها من الجوانب التي تعد أساسية، ولكنها مدرجة في برامج المؤسسات الحكومية وسياساتها وخططها.
غير أن هذا لا يعد، وفق التصور المطروح في هذه الورقة تفكيراً استراتيجياً، وذلك لاعتبارين أساسيين، أولهما أن هذه الموضوعات هي في الأساس مدرجة في خطط وبرامج المؤسسات التنفيذية المعنية بها، والفكر الاستراتيجي ليس تجميعاً لهذه البرامج أو الخطط إنما هو غير ذلك تماماً، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في غياب البعد الثقافي والحضاري فيها، أو النظر إليه على أنه جانب هام وأساسي شأنه في ذلك شأن قضايا العمل والتعليم والتدريب والتأهيل وغير ذلك، في حين تعد المسألة الثقافية أكبر من هذه جميعاً.
في ضوء هذا التصور تأخذ الورقة بمعالجة موضوع التنشئة الاجتماعية من رؤية مختلفة نسبياً تقوم على التفاعل مع البعد الثقافي والحضاري على أنه يشكل الأساس في سياسات التنشئة واستراتيجياتها لارتباطه الوثيق بمفهوم الهوية، وبمفهوم الذات.
إن الحديث عن استراتيجية التنشئة الاجتماعية ليس بالأمر اليسير دون التعرف إلى مشكلات الأبناء الأساسية وقضاياهم التي تشغل بالهم، وبال المعنيين في اتخاذ القرار على مستوى المؤسسات المختلفة، ويدرك المتتبع لأوضاع الشباب على امتداد الوطن العربي أن هذه المشكلات ليست مشكلات شريحة اجتماعية فحسب بقدر ماهي مشكلات المجتمع نفسه، فمشكلات التعليم والعمل وما يتصل بها من مشكلات البطالة والاستقرار وغيرها هي مشكلات مجتمعية وليست مشكلات قطاعية مرتبطة بهذا القطاع أو ذاك، ولا هي مرتبطة بهذه الشريحة أو تلك.
والحديث عن استراتيجية التنشئة يتطلب تحديد المشكلة الاستراتيجية التي يعاني منها الأبناء، أو المشكلة الاستراتيجية التي يعاني منها المجتمع عموماً، فهل توجد فعلاً مشكلة استراتيجية تتطلب حلاً استراتيجياً؟.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق